“إن التجارب التي بلوتها في الأيام الأواخر ردت إلىّ الصواب فيما يمس تقدير الناس وتقويم منازلهم واكتشاف خباياهم…
عرفت لماذا أحس رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن الرجال قليل، وأن نسبتهم فيمن ترى لا تكاد تبلغ الواحد في المائة؛ ولذلك قال: {الناس كإبل مائة لا تجد فيهم راحلة}.
أجل. إن الذين يُعوَّل عليهم في اقتحام الصعاب وتحطيم العقبات، وإدراك الغايات أندر – إلى حد بعيد – مما يفرضه حسن الظن وتوقع الخير.
وما أحكم قول الله عز وجل: ((وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ))…
وإلى جانب قصور الهمم ووهن المناكب وضعف الإدراك وما إلى ذلك من رذائل العجز المبعثرة بين العامة والهمل، تجد رذيلة أخرى إذا لحقت بالأقوياء شانتهم وحطمتهم، وهي سوء النية، أو بتعبير أدق، غش النية.
فإن القصد المدخول يجعل الرجل يأتي عمل الأخيار – وهو بضميره بعيد عنهم – فيخرج منه ضعيفاً لا يصل إلى هدفه، أو منحرفاً لا ينتهي إلى موضعه.
ثم إن صاحب هذا العمل محسوب على قوى الإيمان والإخلاص، في حين أنه دسيسة مقحمة فيها، أو هو في الحقيقة جرثومة تعمل ضدها وتثير داخل كيانها العلل…
ولم أعرف نفاسة قول الرسول (صلى الله عليه وسلم): {إنما الأعمال بالنيات} حتى خالطتُ المئات والألوف فوجدتُ في سيرتها الأعاجيب.
طالما بحثت عن الإخلاص المحض لله ولرسوله لآنس به وأستمتع، أو لألوذ به وأستجير، فكانت سوءات الهوى المستور تفجؤني فتردني محزوناً لا ألوي على شيء…!
هناك ناس فاتهم من حظوظ الدنيا ما يكسبهم الوجاهة المنشودة، فالتحقوا بميدان الدعوة إلى الله يرجون فيه العوض الذي فقدوه، فتحول الميدان الطاهر بهم إلى مضمار يتهارش فيه فرسان الكلام وطلاب الظهور وعشاق الرياسة.
وانتقلت موازين الحياة الدنيا وتقاليدها ومؤامراتها وأساليبها تبعاً لذلك إلى ميدان الدعوة فماذا تنتظر من هذا الخلط إلا أن تقع فتنة في الأرض وفساد كبير؟
لقد خلصتُ من تجارب هذه الأيام التي مرت بي إلى أن العمل للإسلام لا يُقبل إلا ممن يعمل به. وأن الذين يفشلون في إقامة أمر الله بينهم أعجز من أن يقيموه بين الناس؛ وأن الله لا يُمكِّن لأمة باسمه إلا إذا نضجت في هذه الأمة عناصر الخير وربت منابع البر، حتى إذا ملكت نضحت على العالمين من طبيعتها العالية، فأشاعت الرحمة والعدل، وعلَّمت الطاعة والتقوى، وأمرت بالمعروف ونهت عن المنكر! وذلك مصداق قوله سبحانه ((الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ)).
إن الإيمان الصحيح يجعل نفس المسلم تستجيب لدواعي الخير المختلفة كلما أهابت بها. فهو في السلم والحرب، في الصحة والمرض، في الأمن والروع، في الخصب والجدب، في كل حال يقدرها الله له، يواجهها بما يفرض اليقين عليه، لا ينكص ولا يزيغ…!
يصبر في الضراء ويشكر في السراء، ويكرم عند النفقة ويقدم عند الروع، ويقيم الفرائض الموقوتة ويهجر المعاصي المحرمة، ويبغض المبطلين ويشغب على ضلالهم، ويحب المصلحين ويشد أزرهم..!
ذاك شأن المسلم. إن الخضوع لأمر الله والمبادرة إلى إنفاذه استعداد كامن دائم فيه. ((الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ)).
وقد تلت هذه الآية آيات أخرى تُفصِّل حقيقة الطاعة المطلوبة، وتبين أن مشاعر الخضوع لله، المستكنَّ في نفس المسلم، موصولة لا تنقطع، متماسكة لا تنفصم. وأن الزعم المجرد عن العمل لا قيمة له في حقيقة التقوى.
هب رجلاً أعجبه دفء الفراش ساعة الفجر وآثر لذة النوم عل غيرها من ذكر وقربى، أتحسب ذلك يقدر على جهاد خشن في ميدان غليظ؟
هب رجلاً أغراه فتون الفاحشة فتلوث بها في أيام الرخاء والسعة، أتراه يطبق مرضاة الله في الانخلاع عن الدنيا لو طُلب إليه أن يفتدي أمته بنفسه يوماً ما؟
إن الرجال الذين يسيئون في القليل لا ينبغي تصديقهم إذا أقسموا في الكثير. وهذا ما بدأت الآيات الكريمة تُفيض فيه ((وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)).
نعم، طاعة معروفة! إن المتكاسلين في الصلاة، الباخلين بالزكاة لا يقبل منهم حلف على الفداء والتضحية.
إن الناكلين عن خدمة الحق بكلمة هادئة لا يحلفون على خدمته ببذل الدم.
طاعة معروفة.
ما أحز هذه الكلمة في جلود الخادعين المخدوعين، الذين يظنون مِحالَهم (مكرهم) منطلياً على الله…
ثم شرعت الآيات تجر أولئك إلى صراط الله الذي يزعمون أنهم أوغلوا فيه وهم لمَّا يهتدوا إلى مطالعه ((قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ …)).
والطاعة المعنية هنا قوامها تصحيح العقيدة وتطهير القلب وإدامة الصلاح ولزوم التقوى.
وتجلية هذه المعاني يجيء في إبَّانه. فإن الآيات نزلت في المدينة. والنبي الكريم يكافح قوى الشرك ويرسي قواعد الدولة التي يريد بناءها.
وفي هذه الظروف يُقبل المغامرون من طلاب الدنيا ليشاركوا في الجهاد طلباً للغنيمة. وقد يتطلعون إلى الحكم رغبة في الإمارة لا إقامة لدين الله. فتعليماً لهؤلاء اطَّردت الآيات تنذر وتبشر، وتعد بالنصر والتمكين الطائعين المخلصين وحدهم.
((وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا …)).
لكن ما شرط ذلك؟ وما مقدماته الصحيحة؟
((يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا …))
((وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ))
وعادت الآيات تكرر أوامر الخير وأسباب الفلاح ((وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)).
وهذه مدارج الفضل والسناء. أي مجتمع تـَهِي فيه عُرى الأخلاق، وتضعف فيه مقومات النفوس الكبيرة، هيهات أن يوفق إلى تأسيس دولة مكينة أو إقامة حكم رشيد…
إن النفوس الدنيا لا يمكنها أن تقيم أحكام السماء، ولا تستطيع – وهي مُخلِدة إلى الأرض أن تستجيب لتعاليم الوحي، او تستقيم مع جوّه النقي الطهور.
أرأيت امرأً خليعاً يشرع دساتير الأدب ويطبقها، أرأيت امرأً خوَّاراَ يشرع دساتير الكفاح ويؤججها؟
إن ينابيع الخير التي أخصبت بها الحياة وازدانت.. لم تنبجس من نفوس متحجرة، بل فارت بالري العذب من نفوس مفعمة بالكمال، فياضة بالبر والسكينة والجمال.
وغيوم الشر التي لوثت الآفاق وآذت البلاد والعباد لم تنفخها أنفاس لاهثة يقطعها الإعياء والوجل، بل عصفت بها نفوس لها في الحياة فعل الأعاصير المجتاحة كانت قوتها في الخير هي السبب الأول في اندحار الشر أمامها…
والنفوس التي انحصرت في أهوائها الصغيرة لا تفقه الدين، ولو فقهت ما أصلحت به شيئاً فضلاً عن أن تصلح هي به…
إن الحقيقة الأولى في الإسلام زكاة النفوس وسناؤها، وفقدان هذه الحقيقة فقدان الأصل الذي لا يسد مسده عوض، ولا يغني مكانه صلاة ولا صيام ولا جهاد ولا قيام.. بل فقدان هذا الأصل يجعل العبادات التي يأتيها البعض نوعاً من الفساد الملفوف، فإن النيات المدخولة والقلوب الحالكة لا يصلح معها عمل أبداً.
إن الله أمر الناس أن يزكوا أنفسهم وأن يزكوا بيئتهم، ومن ثم يكون جهادهم العام في ترقية الجماعة جزءاً من جهادهم الخاص في تهذيب غرائزهم وتقويم مسالكهم..
فإذا رأيت رجلاً يشتغل بجهاد الناس وهو مذهول عن جهاد نفسه، فاعلم أنه خطاف يريد الاشتغال بالسلب والنهب تحت ستار الدين.
إن تقوى الله عز وجل لُباب الدين وسياج نُظُمه الدقيقة والجليلة، ورباط تعاليمه في المجتمع والدولة. ولو أفلحنا في إقامة هيكل كبير يمثل شرائع الله كلها، وتبرز فيه صور الإسلام المعهودة والمنشودة، ثم حفت بهذا الهيكل نفوس خلت من الله، وضمائر لا تحسن رقابته ما كنا بهذا كله قد أقمنا إسلاماً ولا خدمنا إيماناً.
ولسنا ننكر قيمة القانون في حراسة ظاهر الحياة، ولكننا ننكر أن يكون للقانون أثر يذكر في موازين الخير والأمانة والنهوض والوفاء وحسن التقدير وسلامة القصد.
بل إن القوانين أعجز من أن تحاكم الإيمان والنفاق والرياء والإخلاص.
وهذه لها ما لها في قيادة الجماعات إلى الغي أو الرشد..
في عصرنا هذا نُظم القضاء، ورُتبت محاكمه، وُوزعت أعباء الدفاع والاتهام والموازنة والتمحيص على رجاله، وهُيئت الفرص لتدارك الخطأ، واتسعت ضروب التقاضي فأمكنت محاكمة الدول والفرد جميعاً. بيد أن هذه الوسائل العديدة لتوفير العدالة وإشاعة السكينة لا تجدي شيئاً إذا التاثت النفس الإنسانية وأضلها الهوى، فإن النفوس المجرحة لا تمسك الحق إلا كما تمسك الماءَ الغرابيل.
ولذلك يقول الله لداود – وهو نبي وحاكم:
((يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ)).
وكل مُستخلَف في الأرض يكون قربه أو بعده من الله على قدر بصره بالحق وانصياعه له وأخذه نفسه والناس به.
ونحن لو تركنا الهوى يقيم حدود الله لقُطع المسروق وتُرك السارق وقُدِّم المفلوك وأُخِّر الماجد، وأعطي حيث يجب أن يُمنع وخُفض حيث يجب أن يُرفع.
أفتحسب ذلك ديناً، أم ذلك هو الفساد المبين؟
إن أولى الناس بالله من حكَّموا الله في أنفسهم، وخضعوا لدينه في طواياهم، وعاشوا له في شئونهم التي لا يراها إلا هو – جل اسمه – قبل أن يتظاهروا بالعيش له في كل زحام، والغضب له في كل خصام.
هبك فتحت المصحف فوجدت فيه قول الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا)).
وقوله تعالى أيضاً: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى …)).
إنك – كأي مسلم – مطالب باحترام النداءين، وإجابة الأمرين، على أن في مقدورك هذه الساعة قبل غيرها أن تقيم العدل بين من تحب ومن تكره ولو بكلمة، أما إنفاذ القصاص الواجب فقد تقيمه غداً إن عجزت عنه اليوم فهل آمنك على هذا الإنفاذ المنشود لو رأيتك تهدر النص الأول، وتجحد كلمة حق تُقِر بها العدالة وتقوم مخلصاً لله رب العالمين!
لا يا صاحبي.. إن أولى الناس بالله من يقيم في جوانب نفسه سلطان الحق، ويهزم نوازع الهوى، فإذا أذنت له الأقدار بامتداد كان البر بعباد الله أول ما ينتظر منه، وكان الجور عن الطريق آخر ما يرمى به..
من خمسة عشر عاماً وهذا القلم يكتب للإسلام يشرح نظامه، ويبرز أحكامه، ويغري الناس بالأخذ به والدخول فيه، ومُذ حُلَّت عرى الحكم الإسلامي في عصرنا، وسقطت دولته تطلع المؤمنون إلى يوم أغر يعلو فيه لواء الدين، وتسود شريعة الله.
وأى مسلم لا يداعب نفسه هذا الأمل الحلو؟ وأي مسلم لا يعمل له وعلى لسانه قول الشاعر:
مُنىً إن تكن حقاً تكن أعذب المنى وإلا فقد عشنا بها زمنا رغداً
لكن من يقيم هذا الحكم المرغوب؟ وما الأدوات التي تُمكِّن له؟ إن الدولة المسلمة لن تجيء إلا ثمرة أمة مسلمة، وإذا صدقنا أن الوثنيين يقيمون حكماً للتوحيد صدقنا أن يقيم الدُّعَّار حكماً للفضيلة، وأن يقيم المهازيل نظاماً للرجولة، وأن يصنع العبيد منهاجاً للسيادة..
إن أول ما يُنتظر في جماعة تبغي الحكم بما أنزل الله أن يصحب بعضهم بعضاً على هذا الأساس، وأن يعامل بعضهم بعضاً بهذا المنطق.
لذلك جزعت عندما رأيت بعض من يتنادون بدستور السماء يعيشون في وساوس الأرض وأوحالها.
لقد كان القرآن خُلق رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، أي أن من دعا الناس إلى اتباعه جعله صقال روحه، وملاك أمره، ومعقد شمائله، ودعامة سيرته..
كان محمد عليه الصلاة والسلام نقي السر والعلن، طهور الظاهر والباطن، لا يوجد بين حياته الخاصة وحياته العامة حجاب، فسيرته في نفسه وفي بيته كسيرته بين الناس، ودعوته التي يعرض على الناس أصولها كان أول الناس احتكاماً إليها وأخذاً بها، وقد ظل بارزاً للأصدقاء والخصوم سنين طويلة، فما عُرفت عنه ريبة، ولا وقع تناقض بين سلوكه الخاص وسلوكه العام.
إن الرسالة التي نادى بها هي الرسالة التي عاش فيها، وهي التي ضبطت أحواله كلها سواء ما اطلع عليه الناس أو ما خفي عن أعين الناس.
ومثل ذلك لا يطبقه الأدعياء من أصحاب الشهوات، ومن ذوي الرجولة المريضة والأخلاق الملتوية.
ولقد حاول خصوم رسالته أن يستدرجوه إلى المهادنة والمسلك المزدوج فأبى وهو القائل: {ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيها}.
وفي ذلك يقول القرآن: ((فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ)).
والحق أن صاحب الرسالة العظمى قد زوده الله بزاد من الشرف والصراحة والثبات هي كِفاء ما حمل من أمانة وبلغ من رسالة.
ولن يصل صاحب رسالة نبيلة إلى غايته إلا إذا مشي في هذه السبيل المشرقة.
ثم إن هذا الرسول لم يفرط أدنى تفريط في صبغ النفوس بتعاليمه وضبط المجتمع بآدابه، ومحاكمة الصغير والكبير إلى معالمه.
بل إنه لم يتساهل في تطبيق ذلك على جثث الموتى، ففي معركة أحد كان يسأل – وهو يستعرض رفات الشهداء –: أيهم أكثر أخذا للقرآن؟ فيدنيه منه في الصلاة ويقدمه على غيره في اللحد!
فانظر ماذا صنع المحسوبون على دعوة الله في زماننا هذا؟ داسوا موازين الإيمان وجاءوا برجال لا يدرون من شرع الله شيئاً ليقودوا ركب الدعاة إلى الله! فكان أن قادوهم إلى مواطن الندم..
إن المسلم الذي يفقد ضميره لإيثار شخص بمنصب كيف يرجى منه أن يحكم بما أنزل الله حين يتولى مهام الدولة ويملك أزمتها الكبرى؟
فإذا غلغلت النظر في خبء هؤلاء، وجدت تقرباً سره الزلفى، وإغماضاً سره الجبن، وفصلاً سره الحقد، ووصلاً سره الإدلال، وصداقة سرها الهوى! فأين ((مَا أَنْزَلَ اللَّهُ)) بين قوم هذه حالهم؟
إننا لن نوفق إلى الحكم بما أنزل الله حقاً إلا إذا نمت أعوادنا في مغارس الفضيلة، فكنا عدولاً مع أنفسنا قبل أن نكون عدولاً مع الناس…
وتربية الأجيال الجديدة لتكوين أخلاق عظيمة ومسالك رائعة، خطوة لا بد منها في هذه السبيل.
وقد هيمنت علىّ مرارة الإحساس بهذه الحقيقة فجعلتني أصرخ بالألم في المقالات المثبتة هنا.
إن الاضطراب الشديد داخل الجبهة الإسلامية، والغارة الشعواء على العالم الإسلامي جعلاني موزعاً بين الدفاع والهجوم.
دفاع ضد أقوياء متربصين.
وهجوم ضد أعوان بُله وانين متقاعسين!
دفاع رجل يخشى أن يصاب من ظهره لأن المنتمين إلى الإسلام ينالون منه، وكأنه عدو، وهو الصديق الودود!!
وهجوم رجل يُعيِّر بجهالات غيره، وهو يكافح فكرة (العيش بلا دين).
تلك الفكرة التي تزحف وسط أمواج دافقة من العلم المادي والحضارة المدنية.”
محمد الغزالي
مقدمة الطبعة الأولى
من كتاب: من معالم الحق في كفاحنا الإسلامي الحديث
تحميل الكتاب
من معالم الحق في كفاحنا الإسلامي المعاصر
أو
من معالم الحق في كفاحنا الإسلامي المعاصر
أو
من معالم الحق في كفاحنا الإسلامي المعاصر
أو
0 comments:
Post a Comment