Friday, April 29, 2011

الخطاب الإسلامي بين ثوابت الأصل ومتغيرات العصر


مدخل
عصرنا عصر العولمة
يتميز العصر الذي نعيشه – عصر العولمة - بسقوط الحدود الزمانية والمكانية ، وتلاشي المسافات؛ حيث تحول العالم إلى قرية صغيرة أصبحت فيها العلاقات البشرية أكثر تنظيمًا وسرعة ، الأمر الذي أدى إلى مزيد من التفاعل البشري والانفتاح الثقافي والتنازع الحضـاري .
كما يتميز بالتطور الهائل في تكنولوجيا الانتقال و الاتصال ، حيث وصل الإنسان إلى القمر ، وأرسل أجهزة إلى المريخ جمعت صوراً لسطحه وعينات من تربته ، واخترعت أدوات جديدة للتواصل بين أعداد أكبر من الناس كما في شبكة الإنترنت ، والأقمار الصناعية والمحطات الفضائية ، التي أصبح الانسان قادراً عبرها على أن يرى ويسمع ما يدور في أرجاء العالم .
هذه الثورة التقنية العلمية الهائلة ، نسبة لميلادها وتطورها في كنف الحضارة الغربية أفرزت تحديات كبيرة – على كافة الأصعدة - أهمها :
ـ اقتصاديًّا : أدت إلى زيادة الترابط بين الأسواق المختلفة حتى وصلت إلى حالة أقرب إلى السوق العالمي الكبير، خاصة مع نمو البورصات العالمية ، وبروز الشركات عابرة القارات ، الأمر الذي أضعف الشركات الصغيرة ، و أعيا الدول الفقيرة .
ـ دينيًّا : أدت إلى تغليب المادة على الروح والعاجل على الآجل ، والنـزوة على المبدأ، واختزلت الإنسان في بعده المادي الاستهلاكي بل والشهواني أحياناً ، وساهمت في ترويج العلمانية الغربية ؛ والدعوة إلى فصل الدين عن الدولة فكراً و ممارسة .
ـ سياسيًّا : أوجدت أداة فعالة للنظام العالمي الجديد تمكنه من بسط سيطرته ، ونشر حضارته والعمل على تشكيل العالم وفق الطريقة التي يريد عبر إحكام السيطرة على المؤسسات الدولية كالأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي ومجلس الأمن ونحوه ، والسيطرة على أجهزة الإعلام العالمية من صحف وإذاعات وقنوات فضائية ونحوه .
ـ اجتماعيًّا : أدت إلى تزايد الصلات بين الجمعيات والمؤسسات غير الحكومية و تعميق التنسيق بين المصالح المختلفة للأفراد والجماعات، فظهر مايعرف بـالشبكات الدوليةNetworking حيث برز التعاون استنادًا للمصالح المشتركة بين الجماعات والمؤسسات الأمر الذي أفرز تحالفات بين القوى الاجتماعية على المستوى الدولي، خاصة في المجالات النافعة مثل: الحفاظ على البيئة، أو في المجالات القانونية كتنظيف الأموال والمافيا الدولية للسلاح. وفي الجانب غير المحمود أدت لظهور الجريمة عابرة الحدود الأمر الذي نتج عنه فقدان التوازن النفسي والقيمي في مسيرة الحضارة البشرية .
الخطاب الإسلامي : لماذا ؟
الخطاب الإسلامي ضرورة ملحة لأسباب عديدة .. أهمها أنه :
ـ رسالة البلاغ المبين :
ذلك لأن المسلمين في كل عصر مطالبون بتبليغ رسالة الله عبر خطاب إسلامي يقدم الإسلام عقيدة وشريعة وقيماً، بمضمون صحيح كامل ..وأسلوب قشيب فاعل ..يبصر من العمي ،و يهدي من الضلالة ، ويرشد من الغي، ويرد من التيه . يقرب البعيد ، ويروض العنيد ، يهدي الكافر ، ويؤلف النافر ، فيقيم ا لحجة على البشرية ، و ومتى خلا الزمان من هذا البلاغ - أو تقاصر البلاغ عن هذه الصفات – لحق التقصير بالمسلمين .
ـ سبيل الانبياء والصالحين :
البلاغ والدعوة إلى الله هي سبيل الرسل عليهم الصلاة والسلام ، بل هي سبيل النجاة الوحيد لهم ولأتباعهم ، لقوله جل وعلا "قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا ، إلا بلاغاً من الله ورسالاته".. الآية [1]، لذلك فالخطاب الاسلامي هو دأب الصالحين و ورثة النبيين ، ونهج الخيِّرين : "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله"[2] .
ـ طريق الخلاص للعالم :
الواقع البئيس الذي يعيشه العالم اليوم يفرض على المسلمين أن ينشروا الخير العميم الذي عندهم والذي يقدم الحلول الناجعة لمشاكل العالم ؛ مستخدمين في ذلك أدوات العصر ولغته في مخاطبة الناس ، تحقيقاً للشهود الحضاري للأمة الإسلامية على الأمم الأخرى انطلاقا من قوله تعالى : "وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً" .. إلى قوله : "إن الله بالناس لرؤوف رحيم"[3] .. فالشهود ليس في الآخرة فقط بل هناك شهود في الدنيا –كما يرى بعض المفسرين – قال عطاء : " إن أمة محمد شهداء على من ترك الحق حين جاءه بالإيمان والهدى من كان قبلنا ، ورسول الله شاهد على أمته وهم شهداء على الأمم " .
والشهود الذي تقوم به الأمة الإسلامية يقوم على :
ـ الخيرية المستندة إلى أكمل الشرائع و أقوم المناهج وأوضح المذاهب واصح العقائد .. عقيدة التوحيد التي وحدت غاية النفس البشرية وجعلتها تنحصر في رضاء الخالق ، فعصمتها من التمزق النسي والصراع الداخلي والتناقض الفكري والتنازع الكهنوتي ، والتضارب السلوكي ، فأزالت الأرباب الزائفة ، وحطمت الأصنام المادية و المعنوية، وهذبت الرغائب النفسية ، وشذبت الشهوات الحسية ، ووجهت الغرائز الحيوانية ، فأبانت الوجهة وحددت الطريق و وضحت المعالم وأرست المبادئ ونشرت القيم وأنشأت خير أمة أخرجت للناس ، فسعد العالم وطرب الوجود وفرح الكون وانتشت الحضارة : "قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون"[4] .
ـ والرحمة التي جعلها الله للناس كافة دون اعتبار لدين أو عرق أو حضارة ، الرحمة التي تشيع السماحة والود والتراحم بين بني البشر ، وتخلص العالم من التحاسد الفردي والتطاحن العنصري والتعصب الديني كما تمكنه من وقف نزيف الدم الذي احدثته الحروب الطاحنة التي تقوم على الرغبة في التوسع والاستغلال المادي والعظمة الكاذبة .
سمات الخطاب الاسلامي
للخطاب الإسلامي سمات تميزه عن غيره يمكن إيجازها في الآتي :
1. ربانية المصدر والغاية
فالخطاب الإسلامي ربانيٌ في مبدأه ومصدره ،..من الله يصدر واليه ينتهي .. منبعه الوحيين .. ولا يملك مجتهد مهما سما قدره أو علا كعبه أن يحدث في هذا الدين ما ليس منه ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )[5] ،هذه الربانية عصمت الفكر الاسلامي من التناقض وبرأته من التحيز وحررته من الهوى وأضفت إليه قدسية لم تتأت لغيره .
كما أنه رباني في غايته ووجهته ، يرمي إلى أن يعرف الإنسان لوجوده غاية ولمسيرته وجهة ولحياته رسالة ، فيجتمع شتيته ويأتلف شعثه ويتوحد همه ويطمئن قلبه .
2. عالمية الوجهة
فالخطاب الإسلامي عالمي المنـزع والوجهة ، لا يحفل بجنس ولا يتحيز لعرق ولا يتكتل في لونه، بل حفلت مفردات القرآن بنداءات للناس جميعاً : يا أيها الناس ، يا بني آدم وتكررت فيه لفظة "العالمين" ، ولفظة "من" التي تفيد العموم والشمول لكل من يعقل ، وتحققت عالمية الخطاب في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم إذ وجه خطابه إلى ملوك ورؤساء العالم وقتها ، فكتب إلى كسرى عظيم الفرس ، وقيصر عظيم ا لروم ، والمقوقس عظيم القبط ، والنجاشي ملك الحبشة وهكذا
هذه العالمية – للاسلام – تبدت في قدرته على التعايش مع كل الجماعات البشرية غير المحاربة –من نصارى ويهود .. ملوك وفقراء .. سود وبيض ..الخ ، وفق الأسس والضوابط التالية :
1. الاختلاف سنة إلهية : الاعتراف أن الاختلاف بين بني البشر في الدين واقع بمشيئة الله تعالى ، فقد منح الله البشر الحرية والاختيار في أن يفعل ويدع ، أن يؤمن أو يكفر : "فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر"[6] .
والمسلم يوقن ان مشيئة الله لا راد لها ولا معقب . كما أنه لا يشاء إلا ما فيه الخير والحكمة علم الناس ذلك أو جهلوه . ولهذا ينحصر دوره في مهمة البلاغ المبين قولاً وعملاً دون إجبارٍ أو إكراه : "ولو شآء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً ، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين"[7] .
2. وحدة الأصل الإنساني و الكرامة الآدمية : انطلاقاً من قوله سبحانه وتعالى : "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم"[8] ، وقوله : "ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البرّ والبحر ورزقناهم من الطيّبات"[9] . فالناس أكرمهم عند الله اتقاهم ، أبوهم واحد ، والرابطة الانسانية بينهم قائمة شاءوا أم أبوا ، هذه الرابطة تترتب عليها واجبات شرعية كالقيام للجنازة أيًّا ما كانت عقيدة صاحبها .. روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم مرت به جنازة فقام ، فقيل له : إنها جنازة يهودي ! فقال : " أليست نفساً ؟!"[10] .
3. التعارف : لقوله سبحانه وتعالى : "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً و قبائل لتعارفوا، إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم"[11] وكما ورد في الحديث : "وأشهد أن العباد -كلهم – إخوة"[12] , فالتعارف أساس دعا إليه القرآن ، وضرورة أملتها ظروف المشاركة في الدار أو الوطن بالتعبير العصري ، وإعمال لروح الأخوة الإنسانية بدلاً من إهمالها .
والروابط الاجتماعية بين البشر كثيرة ، عبرت عنها الآية الكريمة : "قل إن كان آباؤكم و أبناؤكم و إخوانكم و أزواجكم وعشيرتكم و أموال اقترفتموها و تجارة تخشون كسادها و مساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبييله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين"[13] ؛ إذ حوت : الرابطة العائلية ،والرابطة القومية، ورابطة الإقامة ( الوطن) ، ورابطة المصلحة ، والرابطة الاسلامية
4. التعايش : إذ أن حياة المتشاركين لا تقوم بغير تعايش سمح : بيعاً وشراء ..قضاء واقتضاء ..ظعناً وإقامة . وتاريخ المسلمين حافل بصور التعامل الراقي مع غير المسلمين . وقد حدّد الله سبحانه وتعالى أساس هذا التعايش بقوله : "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم إنّ الله يحب المقسطين"[14].
إن غير المسلم إذا لم يبدأ بحرب ، ولم يظاهر على إخراج ، فما من سبيل معه غير التعايش الجميل الملتزم بالبرّ وهو جماع حسن الخلق ، والقسط هو العدل والفضل والإحسان.
5. التعاون : كثير من القضايا العامة تشكل قاسماً مشتركاً بين المسلمين و غيرهم ، ويمكن التعاون فيها ، كما أن الأخطار التي تتهددهم معاً ليست قليلة ، ويمكن أن تشكل هذه القواسم المشتركة منطلقاً للتعايش والتعاون ، وأهم هذه القواسم المشتركة ما يلي :
ـ الإعلاء من شأن القيم الإنسانية و الأخلاق الأساسية فالعدل والحرية والمساواة والصدق والعفة كلها قيم حضارية تشترك فيها الأديان والحضارات وترسيخها في المجتمعات هدف مشترك يمكن التعاون عليه.
ـ مناصرة المستضعفين في الأرض وقضايا العدل والحرية ومحاربة الظلم ومن ذلك اضطهاد السود والملونين في أميركا واضطهاد الأقليات الدينية و سائر الشعوب المقهورة في فلسطين و كوسوفا والشيشان ونحوه ، فالاسلام يناصر المظلومين من أي جنس ودين . والرسول صلى الله عليه وسلم قد قال عن "حلف الفضول" الذي تم في الجاهلية : "لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أحبّ أنّ لي به حُمر النّعم ، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت"[15].
ـ التعاون لمواجهة دعاة المادية الذين ينكرون الغيب ودعاة الإلحاد الذين يجحدون وجود الله ودعاة الإباحية الذين يروجون للعري والتحلل الجنسي والشذوذ والإجهاض .
3. إنسانية المنطلق
فالنـزعة الإنسانية هي لحمة الخطاب الإسلامي وسداته ، ويكفي للدلالة على ذلك أن لفظة "الإنسان" تكررت في القرآن (63) ثلاثاً وستين مرة ولفظة " بني آدم" تكررت (6) ست مرات وكلمة "الناس" تكررت (240) مائتين وأربعين[16] مرة ، وأول نداء في القرآن كان نداء للناس كافة : "يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون"[17] ، كما أن أول خمس آيات نزلت من القرآن (من سورة العلق) ذكرت لفظة "الإنسان" في اثنتين منها : "اقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق ، اقرأ وربك الأكرم ، الذي علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم"[18] .
و الله سبحانه كرم الإنسان إذ خلقه بيده في أفضل صورة و أجمل منظر و أحسن تقويم ، ونفخ فيه من روحه ، و ميٍّزه بالعقل الذي يعي ويريد ويختار ، واسجد له ملائكته واحتفي به في الملأ الاعلى وسـخر له الكون ، وأنزل إليه كتبه ، واختار منه رسلا ، يدعون إلى إلي الواحد الديان ، ويسمون بإنسانية الإنسان .
كذلك كانت سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم تأكيدا لهذه الإنسانية ، إذ أنه _ صلى الله عليه وسلم _ الرحمة المهداة للعالمين : "و ما أرسلناك الا رحمة للعالمين"[19] ،وكانت أفعاله وأقواله -صلى الله عليه وسلم - تأكيداً لمبدأ الأخوة الإنسانية : "أنا شهيد أن العباد كلهم أِخوة"[20] ، والمساواة الانسانية : "كلكم لآدم وآدم من تراب"[21] ، وأهمية الأعمال الإنسانية : "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : إصلاح ذات البين ، فإن فساد البين هي الحالقة"[22] ، "أحب الإعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم : تكشف عنه كربه ، أو تقضي عنه ديناً ، أو تطرد عنه جوعاً . ولأن أمشي مع أخ في حاجة أحب إلى من أن أعتكف في هذا المسجد شهراً . ومن كظم غضبه ـ ولو شاء أن يمضيه أمضاه ـ ؛ ملأ الله قلبه رخاء يوم القيامة . ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى يقضيها له ثبت الله قدميه يوم ينعقد الأقدام"[23] .
4. وسطية المنهج
الخطاب الإسلامي يراعي التوازن بين العقل والوحي ، وبين المادة والروح ، بين الحقوق والواجبات ، بين الفردية والجماعية بين الإلهام والالتزام بين النص والاجتهاد بين الواقع والمثال ، بين الثابت والمتحول. بين الارتباط بالأصل والاتصال بالعصر .
ـ التوازن في النظر والتعامل مع الحضارة الغربية الراهنة :
لا ينظر للحضارة الغربية بازدراء واحتقار ، كما لا يراها بعين الإعجاب والانبهار ، بل يتعامل معها وفق الموجهات التالية :
1. يؤمن بالتعددية الحضارية الثقافية التشريعية والسياسية والاجتماعية "لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً"[24] ، "ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم"[25] .
2. يعمل على تنمية آفاق التواصل الحضاري ومن ذلك الإفادة من الحضارة الغربية في المنهج العلمي في الكونيات والنظم الإدارية المتقدمة و تجديد الإحساس بقيمة الوقت وقيمة العدل في ظل مناخ كريم والدعوة الى قيام شراكة إنسانية صحيحة وقويمة – التبادل العادل للمصالح – والسعي الجاد لخفض أصوات الغلاة من الطرفين .
3. يهتم بالكتابات التي تقدم لغير المسلمين ويركز فيها على الحجة العقلية لا النصوص الشرعية.
4. يدعو إلى تأسيس فقه الأقليات المسلمة في مجتمع غير المسلمين على قاعدة "لا تكليف إلا بمقدور" ، أي على قدر الوسع و الطاقة بما يحقق للمسلمين الحفاظ على هويتهم دون انكفاء و تفاعلهم دون ذوبان .
5. يركز على المنظومة القيمية في علاقاتنا مع الغرب والقائمة على وحدة الأصل الانساني ومنطلق التكريم الإلهي للإنسان كما سبق بيانه في : "إنسانية المنطلق" .
6. يعمل على إيجاد القواسم المشتركة و الإعلاء من شأن الأنساق المتفقة ، فالحضارات تتقاسم أقداراً من القيم مثل العدل و المساواة و الحرية .. الخ ، و أهل الحكمة من كل ملة يستحقون الشكر و العرفان .
7. لا يرى الغرب كتلة واحدة بل يتعامل معه على أساس أنه دائرة واسعة الأرجاء ، متعددة المنافذ، يمكن مخاطبتها بموضوعية لرعاية المصالح والمنافع المتبادلة دون حيف أو ظلم لتحقيق الأمن والسلام العالميين .
8. يؤكد الالتزام الواضح بالحرية وحقوق الإنسان ومشروعية الخلاف الفكري والتعدد الديني والثقافي والتداول السلمي للسلطة ويدافع عنها بوصفها أساساً من مبادئ الإسلام ، وينبذ العنف في العمل السياسي ولا يخلطه بالجهاد.
9. يدعو إلى إحياء مبدأ التساكن الحضاري واستكمال التوازن المفقود في الحضارة الغربية بالأساس الأخلاقي عبر قدوة ومصداقية يتطابق فيها المثال و الواقع و يكون بدلالة الحال أبلغ من دلالة المقال .
10. يدعو إلى مخاطبة الرأي العام الغربي من منطلق إنساني تجاه مآسي المسلمين – بإعلام قوي – و الإفادة من ذلك في دفع عجلة الحوار و التفاهم .
11. تشجيع فكرة المواطنة للجاليات الاسلامية في الغرب مع رعاية مستلزماتها .
12. يتعين على الأقلية المسلمة أن تراعي المواثيق لدار العهد التزاماً بالقوانين وانضباطاً بأحكامها : "وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولاً"[26] .
13. يعمل على الإسهام في علاج مشكلات المجتمع الغربي و إفرازات الحضارة .. من انحلال أسري وتفكك اجتماعي وانهيار أخلاقي وانحراف جنسي وتعصب عرقي ، والعمل على إبراز تلك الإسهامات .
ـ ضبط المصطلحات :
إذ أن العديد من المصطلحات حانبت الوسطية في الفهم و جنحت للإفراط أو التفريط من ذلك :
أ. الموالاة والمحآدة :
إن القرآن الكريم يزخر بنصوص تنهى عن موالاة غير المسلمين ، وتقرر أن الولاء عندما يقع النزاع إنما يكون لله و لرسوله ، غير أن هذا الأصل محاط بضوابط تحول دون تحوله إلى عداوة دينية أو بغضاء محتدمة أو فتنة طائفية مثل :
ـ النهي ليس عن اتخاذ المخالفين في الدين أولياء بوصفهم شركاء وطن أو جيران دار أو زملاء حياة ، وإنما هو عن توليهم بوصفهم جماعة معادية للمسلمين تحآد الله ورسوله ، لذلك تكررت في القرآن عبارة (من دون المؤمنين) للدلاله على أن المنهي عنه هو الموالاة التي يترتب عليها انحياز المؤمن إلى معسكر اعداء دينه وعقيدته .
ـ المودة المنهي عنها هي مودة المحآدين لله ورسوله الذين (يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم )[27] لا مجرد المخالفين ولو كانوا سلماً للمسلمين .
ـ غير المسلم الذي لا يحارب الإسلام قد تكون مودته واجبة كما في شأن الزوجة الكتابية وأهلها الذين هم أخوال الأبناء المسلمين .. فمودتهم قربة وقطيعتهم ذنب .
ـ الإسلام يعلي من شأن الرابطة الدينية ويجعلها أعلى من كل رابطة سواها ولكن ذلك لا يعني أن يرفع المسلم راية العداوة في وجه كل غير مسلم لمجرد المخالفة في الدين أو المغايرة في العقيدة .
ب. أهل الذمة :
الذمة في اللغة تعني العهد والأمان والضمان ، وفي الشرع تعني عقد مؤبد يتضمن إقرار غير المسلمين على دينهم وتمتعهم بأمان الجماعة الإسلامية وضمانها بشرط بذلهم الجزية وقبولهم أحكام دار الإسلام في غير شؤونهم الدينية ، وهذا العقد يوجب لكل طرف حقوقاً ويفرض عليه واجبات ،وليست عبارة أهل الذمة عبارة تنقيص أو ذم ، بل هي عبارة توحي بوجوب الرعاية والوفاء تديناً وامتثالاً للشرع ، وإن كان بعضهم يتأذى منها فيمكن تغيره لأن الله لم يتعبدنا به وقد غير سيدنا عمر لفظ الجزية الذي ورد في القرآن استجابة لعرب بني تغلب من النصارى الذين أنفوا من الاسم وطلبوا أن يؤخذ منهم ما يؤخذ باسم الصدقة وإن كان مضاعفاً فوافقهم عمر وقال : هؤلاء قوم حمقى رضوا المعنى وأبوا الاسم
ومما يجب إدراكه عن الذمة ما يلي :
ـ فكرة عقد الذمة ليست فكرة إسلامية مبتدأ ، وإنما هي مما وجده الإسلام شائعاً بين الناس عند بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فأكسبه مشروعيته ، وأضاف إليه تحصيناً جديداً بأن حول الذمة من ذمة العاقد أو المجير إلى ذمة الله ورسوله والمؤمنين ، أي ذمة الدولة الإسلامية نفسها . وبأن جعل العقد مؤبداً لا يقبل الفسخ حماية للداخلين فيه من غير المسلمين .
ـ الدولة الإسلامية القائمة اليوم تمثل نوعاً جديداً من أنواع السيادة الإسلامية لم يعرض لأحكامها الفقهاء السابقون لأنها لم توجد في زمانهم ، وهي السيادة المبنية على أغلبية مسلمة لا على فتح هذه الدول بعد حرب المسلمين لأهلها . وهذه الأغلبية يشاركها في إنشاء الدولة وإيجادها أقلية أو أقليات غير مسلمة ، الأمر الذي يتطلب اجتهاداً يناسبها في تطبيق الأصول الاسلامية عليها وإجراء الاحكام الشرعية فيها ، ولا بأس أن يكون عقد المواطنة بديلاً عن هذا المصطلح .
ج. الجــزية :
و هي ضريبة سنوية على الرؤوس تتمثل في مقدار زهيد من المال يُفرض على الرجال البالغين القادرين ، على حسب ثرواتهم ، والجزية لم تكن ملازمة لعقد الذمة في كل حال كما يظن بعضهم ، بل استفاضت أقوال الفقهاء في تعليلها وقالوا إنها بدل عن اشتراك غير المسلمين في الدفاع عن دار الإسلام ، لذلك أسقطها الصحابة و التابعون عمن قبل منهم الاشتراك في الدفاع عنها ، فعل ذلك سراقة بن عمرو مع أهل أرمينية سنة 22 هـ وحبيب بن مسلمة الفهري مع أهل انطاكية ، ووقع مثل ذلك مع الجراجمة – وهم أهل مدينة تركية - في عهد عمر رضي الله عنه وابرم الصلح مندوب أبي عبيدة بن الجراح وأقره أبو عبيدة فيمن معه من الصحابة ، وصالح المسلمون أهل النوبة على عهد الصحابي عبد الله بن أبي السرح على غير جزية بل على هدايا تتبادل في كل عام ، وصالحوا أهل قبرص في زمن معاوية على خراج وحياد بين المسلمين والروم .
غير المسلمين من المواطنين الذين يؤدون واجب الجندية ، ويسهمون في حماية دار الإسلام لا تجب عليهم الجزية.و الصغار الوارد في آية التوبة يقصد به خضوعهم لحكم القانون وسلطان الدولة .
5. أخلاقية المحتوى
فالأخلاق لها مكان رحيب و منزلة سامية في الخطاب الإسلامي يبينها قول الرسول صلى الله عليه وسلم : "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"[28] .فهي ثمرة الإيمان الصادق والتعبد الخالص . وليس ثمة انفصال في الإسلام بين الأخلاق والعلم ، أو الأخلاق والاقتصاد ، أو الأخلاق والسياسة ، أو الأخلاق والحرب
6. إيجابية البناء
وهي نقيض السلبية التي لا ترى الدين أكثر من عقيدة في الصدور ، وعلم في السطور ، وتمائم في النحور ، وعظماء في القبور ، وتقصيه عن أن يكون منهج حياة ، ودافع بقاء ، وباعث عمارة ، ومنشئ حضارة .
والاسلام إيجابي في خطابه إذ أن :
ـ العبادات ليست مجرد طقوس شكليه بل لكلٍّ منها دوره في تزكية الفرد والمجتمع وترقيتهما .
ـ الايمان باليوم الآخر زاجر عن الظلم والإفساد في الأرض ، ودافع إلى فعل الخيرات وعمل الصالحات
ـ والإيمان بالقدر يوفر الأمن النفسي والاطمئنان القلبي والرضا الداخلي الذي ينقلنا من دائرة القلق والانفعال والعجز والقعود إلى دائرة العمل والتأثير لتغيير الواقع ؛حملاً للمسؤولية و أخذاً بالاسباب وتوكلاً على الله .
7. مرحلية التدرج
غاية الخطاب الإسلامي الوصول إلى المثل الأعلى والوجه الأسنى لتطبيق الدين في واقع الناس ، لكن ذلك لا يدعونا إلى أن نغمض أعيننا عن الواقع الذي نعيشه وأن نفكر في مرحلية التدرج به من حاله التي هو عليها إلى الحالة المثلى والغاية القصوى .
المرحلية تتطلب منا أن نعرف أولوياتنا و نرتب أسبقياتنا حتى لا يكون خطابنا بعيداً عن الواقع ، عديم التأثير ، صادا عن سبيل الله ، بعيداً عن روح الإسلام وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ،فالصلاة والصيام والزكاة كلها مرت في فرضها بمراحل حتى استقرت على الوضع الذي هي عليه ، وتحريم الخمر و استئصال الرق كل ذلك روعي فيه التدرج والمرحلية ، ومما قرره العلماء أن التطبيق العملي للشريعة الإسلامية يجب أن يراعي فيه التدرج بخلاف الفكرة التي يطلب فيها الشمول والإحاطة .
8. شمول الفكرة بلا اجتزاء
فرسالة الاسلام هي الرسالة التي امتدت طولاً حتى شملت آباد الزمن ، وامتدت عرضاً حتى انتظمت آفاق الأمم ، وامتدت عمقاً حتى استوعبت شؤون الدنيا والآخرة .
و الاسلام لا ينحصر– كما يرى البعض – في العقيدة والعبادة فقط ، بل يمتد ليشمل الحياة كلها ، وينبغي أن يواكب خطابنا هذا الشمول ويبرز أن الإسلام رسالة لإصلاح المجتمع ،وسياسة الدولة ، وبناء الأمة ، ونهضة الشعوب ، وتجديد الحياة ، تماماً مثلما أنه عقيدة وشريعة، ودعوة ودولة ، وسلام وجهاد ، وحق وقوة، وعبادة ومعاملة ، ودين ودنيا .
9. ارتباطٌ بالأصل واتصالٌ بالعصر
فالخطاب الاسلامي يبرز خصوصية الأمة وتفردها ويرتبط بأصوله ، لذلك فهو ليس مبتوتاً عن تالد ماضي المسلمين ، وناصع سيرة الصالحين ، بيد أنه ليس رهيناً لذلك الماضي ، حبيساً لنـتاج أولئك العظماء الميامين ، بل يدرك كم ترك الأول للآخر ، فالزمان غير الزمان و البيئة غير البيئة والمشكلات غير المشكلات ، لذلك تجده ويأخذ من الحضارات الأخرى ما لا يتعارض مع قيم الأمة الأخلاقية وأصولها العقدية ومفاهيمها الفكرية ومناهجها التربوية وتوجهاتها التشريعية .
10. مصداقية بلا تضخيم
الخطاب الاسلامي لا يضخم أمجاد الماضي ومناقب الحاضر متجاهلاً الأخطاء والعيوب والآفات ، بل يلتزم الصدق فييعرض المناقب بلا تقديس أو تبخيس، و يسرد المثالب بلا تهويل أو تقليل ..
كما أن رائده الانصاف وحاديه العدل لذلك يبتعد عن المبالغات التي يجرها الإكثار من استعمال (أفعل ) التفضيل، وعبارات التعميم .
كثيرا ما نسمع عبارات معممة ليس لها من سند شرعي مثل :
ـ الكفر ملة واحدة : هذه العبارة صحيحة في مآل الكفر فهو مله واحدة من حيث العاقبة ، لكن ذلك لا يعني أن كفر أهل الكتاب مثل كفر الوثنيين .
ـ خذوا الإسلام جملة أو دعوه جملة : هذه العبارة صحيحة في مجال الإعتقاد والتصور فلا يجوز أخذ العقيدة تفاريق، لكن في جانب تطبيق الأحكام وتنـزيلها إلى أرض الواقع لابد من المرحلية والتدرج .
ـ العولمة شر محض : هذه العبارة لاتصح لأن العولمة - على كثرة ما بها من شرور – لا تخلو من جوانب عظيمة الفائدة للدعوة الاسلامية .
هذه نماذج لبعض الألفاظ المعممة تكفي لإيضاح أن الإطلاق و التعميم داء عضال يعرض مصداقيتنا للزوال لذا يجب تداركه .
11. واقعية بلا تسيب
والواقعية هي نقيض المثالية الخيالية التي لا تتحقق في عالم الواقع ، والخطاب الاسلامي خطاب واقعي لان مصدره هو الله خالق الموجودات والعالِم بالممكن والمحال والمستطاع وغير المستطاع ، هذه الواقعية تبدت في :
ـ تحقيق التوازن بين الجانب المادي والروحي في الإنسان إذ أن الانسان مكون من طين ، ونفخة روحية و لكل منهما متطلباته ، والشريعة الاسلامية راعت هذه التوازن على أكمل وجه
ـ إيجاد القدوة التي يمكن إحتذاء نهجها وذلك بجعل الرسل بشراً يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ، فلو كانو ملائكة لتعذر الاقتداء بهم .
ـ مراعاة الفطرة : ومن ذلك قبول التوبة فالانسان خطاء ولو لم تكن توبة العصاة مقبوله لما نجا أحد ولعم الفساد
ـ شمول العبادة في الاسلام وتنوعها : فالشعائر التعبدية لا تستغرق سوى الجزء اليسير من وقت الانسان ، وكسب الرزق وممارسة جميع ألوان النشاط الإنساني يمكن أن تدخل في مفهوم العبادة إن صحت النية .
ـ لا تكليف في الشرع إلا بمقدور: وذلك لقوله سبحان وتعالى : " لا يكلف الله نفساً إلا وسعها[29] "، و " ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج[30] " ، و " ما جعل عليكم في الدين من حرج "[31] .
ـ المرونه ومراعاة المتغيرات : ومن ذلك عدم تحديد الأوعية والوسائل التي يتم تطبيق الثوابت عليها مثلاً لم يحدد الإسلام الشكل الذي يقوم عليه الحكم ( ملكي ، رئاسي ،برلماني ، ...) ولكن حدد القيم التي يجب أن يقوم عليها : العدالة الشورى كفالة الحقوق ... ونحو ذلك .
ـ إباحة الطيبات والترويح عن النفس والتمتع بمباهج الحياة في حدود الشرع والفضيلة .
12. تنوع بلا تضاد
بما أن الخطاب الاسلامي خطاب عام للعالمين ، والعالمون مختلفون في ميولهم النفسية واستعداداتهم الفطرية وطاقاتهم الذاتية ، لذلك لا بد للخطاب الاسلامي أن يكون متنوعاً يروي ظمأ الروحانيين.. ويشفي غلة المفكرين.. ويستوعب طاقة الرياضيين ..يسد حاجة الفقراء .. ويرضي تطلعات الاغنياء ، يخاطب الروح والعقل والجوارح ... يجتذب الشعراء والأدباء والتشكيليين بالتركيز على إظهار القيم الجمالية في الاسلام وربطها بالعقيدة ، وتبيان مظاهر الجمال والزينة في كل أرجاء الكون .. من سماء ذات أبراج : "بنيناها وزيناها" [32] ، "وزيناها للناظرين"[33] .. وأرض ذات فجاج : "إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها"[34] ..و حيوانات ذات جمال : "ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون"[35] … ونباتات ذات بهجة : "وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج"[36] ، "حدائق ذات بهجة"[37] ..
إذ أن خالق الكون جميل يحب الجمال.. خلق فأحسن .. وصور فابدع .. وقدر فهدى .كما لا يغفل الخطاب الإسلامي العلماء والاكاديمين والمشاكل المعاصرة .. فيهتم بإصحاح البيئة .. من نبات وحيوان ومصادر مائية وتربة وغلاف جوي ونحوه .. ويعرِّف بالانسان ودوره في الاخلال بالتوازن الطبيعي .. ويعمل على نشر الوعي البيئي ويتلمس سبل المحافظة على البيئة ، والقضاء على الآثار الضارة لبعض الصناعات النووية والتجارب الفضائية .
13. علمية بلا تهاون
فالخطاب الإسلامي خطاب علمي يراعي اختلاف الظرف والمكان ويجمع بين الأصالة والمعاصرة ،ويفرق بين الثابت والمتغير والمبدئي والمرحلي ،ويعمل على حشد طاقات الأمة و تعبئتها ، لا على إضعافها وتبديدها ، لا يغتر لنجاح ولا ييئس لفشل ، لا يثنيه واقع الاستضعاف عن العمل للتمكين ، و لا طارئ الغربة عن السعي للظهور ، ولا فقه الأزمة عن مستلزمات العافية ، و لا الممكن الموجود عن الأمثل المنشود ..
14. حكمة بلا تهور
والحكمة هي إنزال الشئ في أليق مواضعه ، و هي شأن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه، وو جهه إلى أفضل أساليب الخطاب فقال عز وجل : (( أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ))[38] ، والخطاب من بعده لامته صلى الله عليه وسلم ، ومن الحكـمة في الدعوة أن :
ـ نقدم القدوة قبل الدعوة وذلك بأن يكون الداعية مصباح دجى وإمام هدى وحليف تقى قبل أن يكون خطيباً مفوها متحدثاً بارعا .
ـ نعمل على تأليف القلوب قبل تعريف العقول .. تهيئة لخطاب الحق ..وتحبيباً في تصديقه .. وتشويقاً لتطبيقه ، وذلك بأن يكون خطابنا مفعماً بالرحمة وحب الخير للآخرين والحرص عليهم ونحوه .
ـ نعمل على التعريف قبل التكليف وذلك بتوضيح أهمية الفهم ، ومنزلة العلم في خطابنا .
ـ نراعي التدرج في التكاليف ، ولا نبدأ خطابنا من حيث انتهى فهمنا بل نخاطب الناس على قدر عقولهم ونرتقي بهم في مدارج الفلاح .
ـ نفرق بين فقه الأصل وفقه الاستثناء : فالخطاب في حالة التمكين ليس كالخطاب في حال الاستضعاف ، والأصل في المعاملة ليس كالاستثناء فيها ،ومن ذلك أن الأصل في معاملة أهل الكتاب هوالاخوة الانسانية والتعارف والبر والقسط والمجادلة بالحسنى والاستثناء هو اضطرارهم لأضيق الطريق وجعل الاستثناء في مقام الاصل مخالفة للفهم الصحيح .
ـ نيسر ولا نعسر ، نبسط ولا نعقد ، نبشر ولا ننفر ، نرغب قبل أن نرهب .
ـ نراعي الأصول قبل الفروع ، والكليات قبل الجزئيات والإجمال قبل التفصيل .
15. تصالح بلا تفريق
إن استعادة الريادة الحضارية والسيادة العالمية لأمة الاسلام تتطلب المصالحة الشاملة بين فعاليات الأمة ، والتعاون التام بين دوائر النفوذ فيها ، ويشمل ذلك :
أولاً : المصالحة بين جماعات العمل الإسلامي :
يمكن لجماعات العمل الاسلامي أن تعمل على توحيد الكلمة وفق الموجهات التالية :
1. الإجماع على أمر واحد في فروع الدين مطلب مستحيل بل هو يتنافى مع طبيعة هذا الدين . و الاختلاف ضرورة واقعة تتطلب منا :
ـ رد التنازع الى الله و رسوله .
ـ الإيقان بأنه لا عصمة لأحد إلا للنبي صلى الله عليه وسلم ، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم .
ـ تصحيح النية وتحري أن يكون القصد هو وضوح الحق وبلوغ الصواب .
ـ إحسان الظن بعلماء الأمة و توقيرهم والتماس العذر لهم .
ـ ضرورة الجمع بين النصوص والأقوال قبل القطع بالحكم عليها من خلال نص واحد مع مراعاة السياق اللفظي والمعنوي والظرفي . فيحمل المبهم الخفي على الواضح الجلي ، والمشكل على المفسر ، والمجمل على المفصل والعام على الخاص والمطلق على المقيد ويرجح المنطوق على المفهوم والعبارة على الإشارة والمتأخر على المتقدم وذلك تحقيقاً للإنصاف .
ـ ضرورة حمل الكلام على أحسن المحامل ان اتسع لها التأويل ، وساغ لها الفهم . ومسالك الأئمة كثيرة في هذا المعنى .
ـ لا يحل التشنيع و الإرجاف على طائفة ما بسبب مسائل تحتمل وجوهاً في الفهم ومتسعا للرأي ومسرحاً للنظر ولا يحل التضليل والتكفير لخطورتهما .
ـ إدراك أن الاتفاق العام على أصول المنهج لا يلزم منه الاتفاق على تفاصيله والمخالفة الفرعية لا تخرج المرء عن أصول المنهج ومن ذلك اختلاف السلف في بعض فروع العقيدة كمسألة رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم ربه في المعراج وتفاضل الصحابة و نحو ذلك .
ـ ضرورة التوسط والاعتدال حتى عند شنئان العداوة واستحكام الخلاف فلا بد من الإنصاف والنظر بعين العدل .
ـ الأئمة والدعاة المشهود لهم بالإمامة في الدين تنغمر سيئاتهم في خضم حسناتهم وفضائلهم ، فلا ينبغي الحرص على تتبع سقطات الأعلام و عثرات الهداة ، بل نثبت لأهل الفضل والسابقة فضلهم وسابقتهم .
2. إن لم تتضح الحجة عند الاختلاف عذر كل أخاه و وكل سريرته الى الله عز وجل و داوم على اخوته . فنعمل فيما اتفقنا عليه من الأصول والكليات والقطعيات والمحكمات ، ويعذر بعضنا بعضاً في الفروع مما للاجتهاد فيه نصيب وللنظر فيه مسرح وللرأي فيه متسع – أي بضابط إمكان الاجتهاد- في مثل هذا القدر من الخلاف الذي يسمح به المنهاج .
3. القبول بمبدأ التعددية الحركية وأن تسعى كل جماعة لما وهبت نفسها له .
4. إبقاء الإلفة والأخوة و رعاية الحقوق و صون الحرمات .
5. الوقوف في خندق واحد إزاء قضايا الأمة الكبرى وهمومها المصيرية .
6. تجنب ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة في فهم النصوص وتنـزيلها على الواقع .
7. إحياء فقه الاجتهاد الجماعي المركب من فقه النصوص ومقاصدها وفقه الوقائع و مآلاتها .
ثانياً : المصالحة بين جماعات العمل الاسلامي والتيارات الوطنية والقومية :
يمكن لجماعات العمل الاسلامي والتيارات الوطنية والقومية أن تجتمع على الآتي :
1. المحافظة على الهوية والثوابت : خاصة وأنه في ظل العولمة الثقافية والفكرية تسعى دوائر كثيرة لتمييع ثوابتنا وابعاد أجيالنا عن هويتها الحقيقية .
2. تأمين الأمن والاستقرار : ذلك أن عدم وجود الأمن في ربوع أوطاننا يؤدي الى تضييع الطاقات وتهجير الكوادر وخروج رؤوس الأموال وتعطيل التنمية .
3. إرساء قواعد الحوار وممارسته : ذلك لأهمية الحوار وممارسته حيث أنه توجد قواسم مشتركة ومن ثم فان الأمة تحتاج مزيداً من الحوار وممارسته سواء بين مكونات المجتمع المدني أو بين الهيئات الرسمية.
4. تفعيل العمل الشعبي : إن أهم قوة لدينا كتيارين هو الالتفاف الشعبي بمشروع الأمة الذي نحمله ، ولذلك كان لزاماً علينا أن نفعل العمل الشعبي في أطره المختلفة سواء فيما يتعلق بالهوية والثوابت أو في التصدي للمشروع الصهيوني والمشروع التغريبي أو فيما يتعلق بوحدة الأمة وبعث الأمل .
5. بعث التنمية وتحقيق العدالة الاجتماعية : إن الأمة تحتاج وفي كل الأوطان الى بعث التنمية في جوانبها المختلفة خاصة وأن الهوة بيننا وبين غيرنا عميق والبون شاسع لذا يتعين بذل الاهتمام لتفعيل قدرات الأمة التنموية والارتقاء بها ، وتقليل الفوارق الاجتماعية بين الطبقات .
ثالثاً : المصالحة بين المؤسسات الرسمية والشعبية :
إن خطابنا الإسلامي يكون قاصراً إن تجاهل – بَلْه استعدى – المؤسسات الرسمية التي تؤثر بإصداراتها ونشاطاتها في عدد كبير من أفراد الشعب بل وربما تؤثر على الحكومات وقراراتها .. لذلك ينبغي أن يبذل – لها - من التقدير والاحترام ما يليق بمكانتها العلمية ، وأن يدأب على نقاشها ومحاورتها مستهدين بما يلي :
1. هناك عدد مقدر من العلماء الذين لا ينتمون للجماعات الإسلامية لأسباب عديدة منها ما هو إداري ومنها ما هو فكري يتعلق بوجوب الانتماء للجماعات الإسلامية و عدمه . وإساءة الظن بهم لا تجوز شرعاً
2. المناصب الرسمية التي تتعلق بالشؤون الدينية لا تدخل متقلدها في زمرة العلماء ، والعمدة في هذا الأمر هي العلم بكتاب الله وسنة رسوله والفهم لهما والعمل بهما والدعوة إليهما من حصل ذلك فهو العالم وان لم يتقلد المناصب الحكومية و من لم يحصل ذلك فليس بعالم وان تقلد المناصب الحكومية .
3. شعار " نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه " يشمل كل المسلمين ولا شك أنـِّه يجمع بين المؤسسات الشعبية والرسمية .
رابعاً : المصالحة بين الشعوب والأنظمة :
تختلف الحكومات في قربها وبعدها من الاسلام بقدر ما تطبقه من شريعة الله ، وتختلف كذلك في أسباب عدم تطبيقها لشرع الله كاملاً ، ومهما يكن من أمر فإن المواجهة بين جماعات العمل الاسلامي والحكومات لا تثمر الا في زيادة في تمزق الأمة ، و فتحاً للباب للتدخل الأجنبي . لذلك لا بد من أيجاد مصالحة بين الشعوب والأنظمة للأسباب الآتية :
1. التعاون والتفاهم يوفر المناخ المناسب للأمن والاستقرار الذي تحتاجه الأمة الاسلامية لتحقيق التنمية وتوفير سبل العيش الكريم .
2. التدرج في تطبيق أحكام الاسلام يوفر الوقت المطلوب لإزالة شكوك المتشككين ولإيجاد مؤسسات إسلامية بديلة ، الأمر الذي يؤمن نجاح التجربة .
3. التعاون التفاهم يسقط دعوى من يتهمون جماعات العمل الاسلامي بالتطرف والعنف ويوفر الطاقات لمواجهة الأعداء الحقيقيين .
4. التعاون والتفاهم يجعل الشعوب والأنظمة في صعيد واحد الأمر الذي يؤمن معرفة كل طرف للآخر وللأسباب التي تحول دون أسلمة المجتمع ، وللقوى التي تعمل على زرع الخلاف و إهدار طاقات الأمة ، ويجعل الطرفين يعملان معاً لتجاوز هذه العقبات .

(4)
خاتمـــــة
في عصر العولمة تتعاظم الحاجة إلى خطاب إسلامي يقوم المسير ويحدد الطريق ويشيع الرحمة ويرتقي بالبشرية .
والخطاب الإسلامي يتعرض إلى تشويه متعمد ، وإلى ما هو أشد خطراً منه ألا وهو التشويه غير المتعمد الذي يتطوع للقيام به بعض المحسوبين على الدعاة وهم لا يشعرون .
وعلى الدعاة أن يحسنوا عرض الإسلام - بثوابته المرتبطة بالمبادئ والغايات والقيم والأخلاق والآداب والشرائع والجماليات ، ومتغيراته المرتبطة بالوسائل والأساليب – حتى تقام حجة البلاغ ، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيى عن بينة .
ولسنا نبالغ إذ نقول : إن الخطاب الإسلامي إذا أحسن استغلاله يستطيع استعادة الريادة الحضارية والسيادة العالمية لأمة الإسلام تتطلب المصالحة الشاملة بين فعاليات الأمة، والتعاون التام بين دوائر النفوذ فيها، كما يستطيع أن يفتح آفاقا وأقطارا، فتحا سلميا ، لا تراق فيه قطرة دم ، فلا نشهر سيفا ، ولا نطلق مدفعا ، ولا نعلن حربا، بل نفتح القلوب بالهداية، ونفتح العقول بالفكر.
إنه (الفتح السلمي) الذي أصّله الإسلام ، في (صلح الحديبية ) المعروف ، والذي عقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين مشركي قريش ،لإقامة هدنة بين الطرفين ، يكف كل منهما يده عن الآخر ، فسمّى القرآن ذلك (فتحا مبينا ) ونزلت في شأنه (سورة الفتح) .. وسأل بعض الصحابة الرسول الكريم : أوَفتحٌ هو يا رسول الله ؟ قال: ( إي والذي نفس محمد بيده إنه لفتح)[39] . وانتشر الإسلام في هذه الفترة كما لم ينتشر في أي فترة مضت .
والحمد لله أولاً وآخراً .
===================

[1] سورة الجن آية 22
[2] آل عمران 110
[3] البقرة آية 143
[4] سورة يونس آية 58
[5] صحيح ابن حبان ، ج 1 ، ص 207
[6] هود :118.
[7] يونس 99
[8] الحجرات 13
[9] الاسراء 70
[10] البخاري كتاب الجنائز باب من قام لجنازة يهودي ح رقم 1229
[11] الحجرات 13
[12] سنن أبي داود ، ج 2 ، ص 83
[13] التوبة 24
[14] الممتحنة 8
[15] سيرة ابن هشام ، والكلام عن هذا الحلف ذكر في البداية لابن كثير باسناد صحيح ، وفي دلائل البيهقي ورواه الحميدي ، وابن سعد عن طريق الواقدي .
[16] انظر الخصائص العامة الدين الاسلام ، د. يوسف القرضاوي ، ص 62
[17] البقرة آية 21
[18] سورة العلق أية 1-5
[19] الانبياء 107
[20] سنن أبي داود ، ج 2 ، ص 83
[21] مسند الربيع ، ج1 ، ص 170
[22] جامع العلوم والحكم ، ج 1 ، ص 329
[23] مجمع الزوائد ، ج8 ، ص 191
[24] المائدة 48
[25] المائدة 48 .
[26] الاسراء 34 .
[27] الممتحنة 1
[28] مجمع الزوائد ، ج 9 ، ص 15
[29] البقرة 286
[30] النور 61
[31] الحج 78
[32] ق 6
[33] الحجر 16
[34] الكهف 7
[35] النحل 6
[36] ق 7-7

0 comments:

Post a Comment